الشرق الأوسط في وثيقة الأمن القومي الأمريكي لعام 2025
2025-12-18124 مشاهدة
تُعَدّ وثيقة الأمن القومي الأمريكية الإطار الأعلى الذي تُصاغ من خلاله رؤية الولايات المتحدة للعالم، ليس فقط بوصفها قوة عظمى، بل بوصفها دولة تسعى إلى إعادة تعريف علاقتها بالنظام الدولي وحدود مسؤولياتها فيه.
هذه الوثيقة لا تُكتب لإدارة لحظة سياسية عابرة، بل لتحديد اتجاه طويل الأمد تُبنى عليه السياسات التنفيذية، والتحالفات، وتوزيع الموارد، وأولويات الانخراط أو الانسحاب. لذا، فإن أهميتها لا تكمن فقط في مضمونها، بل فيما تكشفه عن كيفية تفكير واشنطن بنفسها، وبالعالم من حولها، وبكلفة الدور الذي لعبته منذ نهاية الحرب الباردة.
في هذا السياق، تكتسب وثيقة إستراتيجية الأمن القومي الصادرة في نوفمبر 2025 وزناً استثنائياً، كونها أول وثيقة شاملة تصدر في عهد الرئيس دونالد ترامب خلال ولايته الثانية، وتمثل بَلْوَرة نهائية لتحوُّلٍ بدأ منذ ولايته الأولى، لكنه ظلّ آنذاك موزعاً بين قرارات متفرقة وخطابات سياسية.
الوثيقة الحالية تُقدّم هذا التحوُّل بوصفه “تصحيحاً ضرورياً”، وتذهب أبعد من مجرد تعديل في الأولويات، لتطرح مراجعة جذرية لفكرة الإستراتيجية الأمريكية ذاتها، منتقِدةً بحِدّة ما تصفه بالتمدد غير المنضبط، والخلط بين المصالح القومية والأهداف الأيديولوجية، وربط الأمن القومي الأمريكي بمشاريع عالمية لم تَعُدْ قابلة للاستدامة.
التوجه العامّ الذي يحكم الوثيقة يقوم على إعادة تعريف صارمة للمصلحة القومية الأمريكية. الأمن وَفْق هذا المنظور، لا يبدأ من الخارج بل من الداخل، من السيطرة على الحدود، وصيانة القاعدة الصناعية، وحماية التفوق التكنولوجي، وضمان التماسك الاجتماعي والثقافي.
السياسة الخارجية تُعاد صياغتها بوصفها أداةً لخدمة هذه الأهداف، لا كغاية بحدّ ذاتها. وهذا ما يفسر نبرة الانتقائية الواضحة في الوثيقة، ورفضها لفكرة الانخراط الشامل، واعتمادها مبدأ ترتيب الأولويات حتى لو كان ذلك على حساب قضايا لطالما اعتُبرت مركزيةً في الخطاب الأمريكي.
ضِمن هذا الإطار، يُعاد تعريف دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. فالوثيقة لا تنظر إلى المنطقة بوصفها هامشية، لكنها تنزع عنها صفة الاستثناء التي رافقتها لعقود.
لم يَعُدِ الشرق الأوسط الساحة الأولى لتجسيد القوة الأمريكية، ولا المختبر الرئيسي لمشاريع إعادة البناء السياسي. التغير في البيئة الدولية، وتراجُع مركزية النفط، وتحوُّل المنافسة الكبرى نحو آسيا، كلها عوامل دفعت واشنطن إلى تبني مقاربة تقوم على تقليص الانخراط المباشر، دون التخلي عن المصالح الحيوية.
هذا التحول يَظهر بوضوح في كيفية معالجة ملفّ سوريا. توصيف سوريا بوصفها “مشكلة محتملة” يحمل دلالة إستراتيجية دقيقة. فالوثيقة لا ترى في سوريا تهديداً مباشراً للأمن القومي الأمريكي، لكنها في الوقت ذاته لا تعتبرها ملفّاً يمكن تجاهُله.
سوريا، في هذا التصور، هي ساحة يجب منع انفجارها، لا إعادة هندستها. الاستقرار المطلوب ليس استقراراً سياسياً شاملاً، بل استقرار وظيفي، يمنع تحوُّل البلاد إلى مصدر فوضى إقليمية، أو منصّة نفوذ معادٍ، أو تهديد مباشر لإسرائيل أو الجوار.
ومن هنا، تُسنَد مهمة إدارة هذا الاستقرار إلى تفاهُمات إقليمية، تشارك فيها الدول العربية وتركيا وإسرائيل، فيما تكتفي الولايات المتحدة بإدارة السقف السياسي، وضبط الخطوط الحمراء، والتدخل عند الضرورة فقط.
العراق يُقدَّم في الوثيقة كنموذج مكتمِل لفلسفة “نقل الأعباء”. فبعد سنوات من الانخراط العسكري والسياسي المُكلِّف، تتبنى واشنطن مقاربة تقوم على تقليص الدور إلى الحدّ الأدنى الضروري؛ العراق ليس ساحة مواجهة كبرى، لكنه أيضاً ليس ملفّاً مغلقاً.
الاهتمام الأمريكي ينحصر في منع عودة التهديدات العابرة للحدود، وضمان ألَّا يتحول البلد إلى نقطة ارتكاز لقُوى معادية، أو إلى عامل اختلال في أمن الطاقة والممرات الحيوية؛ الدعم الأمريكي -وفق هذا المنطق- مشروط بقدرة الدولة العراقية على إدارة توازُناتها الداخلية والإقليمية. فالولايات المتحدة لا تعرض مظلّة حماية شاملة، بل تضع سقفاً واضحاً لتدخُّلها، ما يعكس تصوراً أوسع مفاده أن الاستقرار لا يُستورد، بل يُنتَج محلياً أو لا يُنتَج.
في غزة، تتجلى البراغماتية الأمريكية بأقصى درجاتها؛ الوثيقة لا تتعامل مع الصراع من منظور الحلّ النهائي أو التسوية التاريخية، بل من زاوية إدارة الأزمة ومنع توسُّعها.
الأولوية الأمريكية في غزة هي منع الانزلاق إلى حرب إقليمية، وضمان أمن إسرائيل، وتحييد الفاعلين القادرين على توسيع دائرة الصراع.
وَفْق هذا التصوُّر فإن مستقبل غزة ليس مشروعاً أمريكياً، بل ملفّ يُدار عَبْر ترتيبات إقليمية ودولية، تمنع عودة التهديد الأمني، دون أن تفرض على واشنطن أعباء سياسية أو مالية طويلة الأمد. هذا يعكس تحوُّلاً واضحاً من دور “الراعي السياسي” إلى دور “مدير المخاطر”.
أما السودان فيقع عند تقاطُع المقاربة الأمريكية للشرق الأوسط وإفريقيا. الوثيقة تنظر إلى السودان بوصفه ملفّاً ذا تأثير غير مباشر، لكنه لا يخلو من المخاطر.
الفوضى في السودان قد تمتدّ إلى البحر الأحمر، وتؤثر على الممرّات البحرية وسلاسل الإمداد، وقد تفتح المجال أمام تمدُّد قوى معادية أو جماعات متطرفة. ومع ذلك لا تطرح الوثيقة أيّ تصوُّر لانخراط أمريكي مباشر أو طويل الأمد. المقاربة تقوم على دعم تسويات إقليمية، وتشجيع أدوار الوسطاء الإقليميين، وتجنُّب تكرار نماذج التدخل السابقة. السودان، في هذا السياق، يُدار عَبْر آليّة الاحتواء لا العمل على البناء.
في المحصِّلة، تكشف وثيقة الأمن القومي الأمريكية لعام 2025 عن تحوُّل عميق في نظرة واشنطن إلى الشرق الأوسط. لم يَعُدِ الهدف إعادة تشكيل المنطقة، ولا إدارة أزماتها نيابة عن دولها، بل منع تحوُّلها إلى عِبْء إستراتيجي. الولايات المتحدة باقية، لكنها أقلُّ اندفاعاً، وأكثرُ انتقائيةً، وأشدُّ وضوحاً في تحديد مصالحها وحدود التزامها.
قراءة التوجُّهات الأمريكية للشرق الأوسط، انطلاقاً من هذه الوثيقة، تقود إلى خلاصة أساسية: نحن أمام مرحلة “الاستقرار المُدار”، لا “الحلّ الشامل”. مرحلة تُقاس فيها قيمة الدول بقدرتها على تقليل كلفة الأزمات، لا بتصديرها. في هذا السياق، الدول التي تمتلك حدّاً أدنى من القدرة المؤسسية، وتستطيع التكيّف مع منطق تقاسُم الأعباء، ستجد مساحة للتعامل مع واشنطن. أما الدول التي تراهن على عودة التدخل الأمريكي الكلاسيكي، فستجد نفسها خارج الحسابات، لا لأن المنطقة لم تَعُدْ مهمة، بل لأنّ الولايات المتحدة لم تَعُدْ مستعِدّةً لدفع ثمن إدارتها وَحْدَها.




