تركيا تؤسس في سوريا لنظام إقليمي جديد

تركيا تؤسس في سوريا لنظام إقليمي جديد

2025-07-04
92 مشاهدة
Download PDF

يُعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا في ديسمبر 2024 أحد أكثر الأحداث تأثيراً في الشرق الأوسط الحديث. فقد شكّل فرصة للسوريين بعد نصف قرن من التسلط، كما أن الدول المجاورة أيضاً معنية بهذا التطور كونها تأثرت بالحرب التي اندلعت منذ 2011.  

لقد خلق انخراط العديد من الأطراف المتنازعة مشهداً معقَّداً بالنسبة لتركيا، إحدى أكثر الدول المعنية مباشرة بالحرب السورية، كونها جارة مباشرة واستضافت 3 ملايين لاجئ سوري، وهي تحاول ضمان أن تؤدي المرحلة الانتقالية ما بعد الأسد إلى نتيجة مستقرة وآمنة.  

انهارت سياسة "صفر مشاكل مع الجيران" التركية بسبب ثورات "الربيع العربي" في 2010-2011، وجهود رئيس الوزراء آنذاك رجب طيب أردوغان لتهدئة الأزمة السورية تم تقويضها بعناد الأسد الذي تورط بجرائم وحشية، كما أن الدعم الإيراني المتواصل للأسد وضع طهران وأنقرة في مواجهة، أما في العالم العربي، فلم تَجِد سياسة تركيا المتساهلة تجاه التغيرات دعماً إلا من قطر.  

ومع ذلك، فإن نزعة "صفر مشاكل" بقيت ضِمن السياسة التركية، وقد علمتها تجربة الربيع العربي، خصوصاً في مصر، كيف تنفذ هذه السياسة بفعالية أكبر.  

في مصر، بدا أن النصر السياسي الظاهري للحكومة المنتخَبة بقيادة محمد مرسي، المنحازة إلى محور "تركيا-قطر"، مجرد سراب، نظراً لعزلة مرسي داخلياً وإقليمياً، وتمكُّن خصومه من التكاتف للإطاحة به بعد 13 شهراً فقط، وكان هذا درساً لتركيا.  

في سوريا، تستخدم تركيا نفوذها لتشجيع عملية شاملة لترتيب الخلافات العِرْقية والطائفية، والتي تُعَدّ التحدي الرئيسي طويل الأمد للمرحلة الانتقالية، وتسعى تركيا للحصول على أكبر قدر ممكن من التأييد الخارجي، متواصلة مع الحلفاء والدول المختلفة معها على حد سواء.  

تُعَدّ إيران بلا شك الطرف الأكثر صعوبة بالنسبة لتركيا في سوريا، دور إيران الدقيق في العنف الطائفي الذي شهدته السواحل السورية في مارس 2025 لا يزال غير واضح، لكن التمرد الذي أطلقته شخصيات مرتبطة بإيران، يؤكد قدرتها على إفساد المشهد.  

خلال الحرب، استطاعت تركيا أن تجمع "مسار أستانا" الذي أدار الخلافات مع إيران بشأن سوريا، ويبقى أن نرى ما إذا كانت صيغة دبلوماسية مماثلة ستنجح في مرحلة ما بعد الحرب لتقليل أثر نيات إيران الخبيثة.  

إسرائيل لاعب صعب آخر بالنسبة لتركيا، وكانت تركيا من أوائل من قبلوا بحقيقة ضرورة التعامل مع "هيئة تحرير الشام"، وهذا ما منح تركيا موقعاً سياسياً قوياً مع الحكومة السورية الجديدة ورئيسها أحمد الشرع، أما الإسرائيليون، فهم لا يثقون بالشرع، واتخذوا عدة خُطوات لإضعاف حكومته، من الضربات الجوية بعد سقوط الأسد لتدمير الأسلحة الثقيلة، إلى تأجيج الانقسامات الطائفية.  

وفي ظل حرب غزة، لم يتبقَّ الكثير من الثقة في العلاقات التركية الإسرائيلية. ومع ذلك، يشترك البَلدان في مصالح كبيرة. فقد أزال سقوط الأسد الحجر الأساسي في "محور المقاومة" الإيراني، وهو المصدر الرئيسي لعدم الاستقرار في المنطقة. وسوريا مستقرة وموحدة ومتعايشة داخلياً ومع جيرانها، ستكون مكسباً كبيراً للطرفين.  

الولايات المتحدة، اختارت التحالف مع "حزب العمال الكردستاني" في محاربة تنظيم الدولة، ثم دعمت الحزب في حكم ثلث الأراضي السورية، بما في ذلك مناطق شاسعة على الحدود التركية.  

ونظراً لأن الحزب يُعَدّ التهديد الإرهابي الداخلي الرئيسي لتركيا منذ أربعة عقود، فقد تسبب هذا في توتُّر مع أنقرة.  

لكن انخراط تركيا في سوريا بدأ يُؤتِي ثماره. ومع اقتراب الولايات المتحدة من الخروج من سوريا، فقد توسطت في اتفاق يقضي بتفكيك منطقة الحزب وإعادة دمج المناطق تحت سلطة حكومة الشرع المركزية. كانت علاقات أردوغان الودية مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عاملاً حاسماً في رفع العقوبات التي كانت تعيق تعافي سوريا، كما ساعدت الولايات المتحدة في مفاوضات تركيا المستمرة مع حزب العمال بعد أن دعا زعيمه الروحي المسجون عبد الله أوجلان إلى التخلي عن السلاح في فبراير 2025.  

أما علاقات تركيا مع السعودية، والتي كانت قد أُصلحت إلى حد كبير قبل سقوط الأسد، فقد تعززت مع تعاونهما في عملية الانتقال السورية، كما ساعد إنهاء الخلاف الخليجي في تسهيل المشروع.  

وإن كانت إعادة تشغيل الاقتصاد لن تحل جميع المشكلات، إلا أنها الشرط الأساسي لإعادة بناء المدن السورية المنكوبة ونسيجها الاجتماعي. وقد أدّت تركيا دورها من خلال المساهمة في إقناع ترامب برفع العقوبات، وتقديم استثمارات وخبرات واسعة لدمشق.  

كما قامت السعودية وقطر معاً بسداد ديون سوريا والموافقة على دفع رواتب موظفي الحكومة، بينما وضعت الإمارات جانباً موقفها العدائي تجاه الإسلاميين لتنخرط في العملية.  

ومع علاقات إدارة ترامب الجيدة مع حكومات الخليج كافة، وعودة التناغم بين واشنطن وأنقرة، فإن هذا التحالف القوي لديه فرصة جيدة للنجاح، حتى وإنْ لم تستطع إسرائيل وإيران التكيُّف مع "سوريا الجديدة".